المبحث الثاني : التنظيم الإداري في عصر الخلفاء الراشدين

                                                   ( التنظيم الإداري في عصر الخلفاء الراشدين )
 امتاز عصر الخلافة الراشدة باتِّباع الدولة مبادئ الشريعة الإسلامية، وكان التنظيم الإداري في الدولة يتألَّف من سلطة مركزية يترأسها الخليفة، وإدارات إقليمية تتفرَّع عنها للإشراف على ولايات الدولة المختلفة ،تعمل مثل الإدارة المحلية في العصر الحديث، وعُمِلَ في إدارة الولايات على فصل السلطة التشريعية - التي يترأسها الخليفة - عن السلطة التنفيذية - التي يترأسها الولاة -، كما فُصِلَ جهاز القضاء عن السلطة الحاكمة. كانت الخلافة تتمُّ بالبيعة، حيث يبايع الناس الخليفة على أن ينتهج سنة الله والرسول محمد في حكمه لهم، وإن التزم بذلك فإن البيعة قائمة، وإن نكصه بَطُلَت وألغيت. وإذا ما التزم الخليفة، فإنَّ حكمه كان يدوم مدى الحياة، وكان الحكم الأول والأخير في جميع الأمور هو للخليفة نفسه. لم تكن هناك في عهد الخلفاء الراشدين قيادةٌ جماعية للدولة، ولم يكن للخليفة نائب ولا ولي ولا وكيل، إلا إن اضطرَّ للغياب فإنَّه يُعيِّن عندها من يتولَّى مكانه ويُدبِّر شؤون الدولة إلى حين عودته. تعد دولة الخلفاء الراشدين هي نظام الحكم الإسلامي المثالي في خلافة الرسول، خصوصاً في عهدي أبي بكرٍ وعمر، وهي النموذج الذي يصبو إليه مؤيِّدو الخلافة الإسلامية في العصر الحديث. ويَعدُّ بعض الدارسين والمؤرخين -خصوصاً الغربيُّون منهم -الخلافة الراشدة دولة ثيوقراطية، إلا أنَّ عدداً من الباحثين المسلمين في المقابل ينفون ذلك. اختلفت سياسات الخلفاء الراشدين وطرق تعاملهم مع شؤون الدولة فيما بينهم، فكانت لكلِّ منهم معاييره الخاصة في انتقاء الولاة والعمَّال على أقاليم الدولة. فعمرُ كان يرى دائماً تقديم الصحابة للولاية، وأما عثمانُ فلم يكن يهتم بذلك كثيراً، وكان يضع الأولوية لقوة وأمانة الوالي، فيما أنَّ علياً كان يضع الأولوية للقوة والشدة، وعندما يأتي ولاته الأفعال غير المناسبة كان يعالج ذلك بمعاقبتهم وتقويمهم. ورغم ذلك، فقد اتَّجه جميع الخلفاء بالمجمل إلى تولية الصَّحابة لقدراتهم ومؤهلاتهم، وكان معظم ولاتهم من صحابة الرسول. ولم تدم ولاية العامل لمدَّة معيَّنة، وإنَّما كانت ترجع إلى رضا الخليفة عنه وعن نجاحه في إدارة ولايته. وقد شملت مهامُّ الوالي تحصين الثغور وتدريب الجنود وتقصِّي أخبار الأعداء، وتعيين العمال والموظَّفين الأقل رتبة على المدن، وإعمار الولايات (كحفر العيون والأنهار وتعبيد الطرق وإقامة الجسور والأسواق والمساجد وتخطيط المدن وغيرها). إلا أنَّ سلطات العمَّال وأعمالهم اتسعت تدريجياً مع تقدم الخلافة الراشدة، حتى امتلكوا في عهد عثمان سلطاتٍ عسكرية كاملة، حيث يقومون بالفتوحات ويبنون الحصون، إلا أنَّ هذه الصلاحيات لم تتسع لتشمل السلطة المالية التي بقيت في أيدي عمَّال الخراج وجامعي الصدقات والزكوات. بعد تولِّي أبي بكرٍ الحكم، رفض عددٌ من ولاة الرسول محمد أن يعملوا لغيره من الخلفاء، فتنازلوا عن 26 مناصبهم، وقام أبو بكر بتعيين ولاة جدد. قام عمر بن الخطاب - بعد الفتوحات الواسعة التي شهدها عصره - بتقسيم دولة الخلافة الراشدة إلى ولاياتٍ مختلفة، وعيَّن على كل ولاية منها عاملاً ينوب عنه في تدبُّر شؤون حكمها، وكان يراقب ويحاسب هؤلاء العمَّال بدقَّة، حيث كان أقسى الخلفاء الراشدين في معاملة الولاة وأشدَّهم إصراراً على التقشُّف والتزام العدل، حتى أنه كان يستدعيهم في موسم الحج من كلِّ عامٍ لتفقُّد أحوالهم،] وكان يطلب من حملة البريد أن يقفوا (بعد وصولهم إلى الولايات والأقاليم) فيسألوا الناس من عنده شكوى على الوالي، وذلك ليرسلها إلى الخليفة دون تدخُّل الوالي نفسه وحيوله دون وصول الشكوى. وإلى جانب العمال، كان هناك في كل ولاية قاضٍ لتولِّي القانون وعامل خراج لتحصيل الضّرائب. وأسَّس عمر عدَّة أنظمةٍ للمساعدة في إدارة هذه الأقاليم وتنظيمها، من أبرزها العسس والحسبة والبريد والقضاء. وقرَّر عمر أن على الأراضي المفتوحة أن تظلَّ تحت إدارة فاتحيها لأنهم الأدرى بها والأكثر قدرةً على الانتفاع منها، فعُرِفَ ذلك باسم الخراج، وقد أمر عمر بإلغاء العديد من الضرائب التي قد فرضها الفرس والبيزنطيون، وأعفى النساء والأطفال والشيوخ والفقراء من أداء الجزية. إلا أنَّ عثمان لم يدر الدولة في تُعييِّن الولاة بنفس صرامة عمر، بل يعتقد الكثيرون أنه حابا بعض أقربائه ونسبائه بمنحهم منصب الولاية، فكان ذلك سبباً في ثورة أهالي الأقاليم عليه وتشكِّيهم من ظلم أقربائه. وقد خلع عليٌّ عند تولِّيه الخلافة معظم ولاة عثمان، ورغم أنه ولَّى عمالاً من أقاربه مثل عثمان، إلا أنَّه حاسبهم بصرامةٍ عندما ارتكبوا التجاوزات، مثل عبد الله بن عباس الذي عزله عن البصرة . الولايات والأجناد انقسمت دولة الخلافة الراشدة في عهد أبي بكر إلى سبع ولايات، هي:الحجاز ونجد والبحرين وعُمان واليمن (مع حضرموت) والعراق والشام.( وكانت المدينة عاصمة الدولة التي تخضع لإدارة الخليفة المباشرة، فإن تغيَّب لسببٍ ما ولَّى أحداً مكانه عليها إلى حين عودته. وكان تقسيم الدولة في عهد أبي بكر أشبه بامتدادٍ للتقسيم الذي تم العمل به في العهد النبوي. لكن الدولة اتَّسعت اتساعاً كبيراً في عهد عمر حتى شملت الكثير من البلاد الجديدة، وكان سُكَّان هذه البلاد من الشعوب المتحضِّرة المتطورة، فأخذ العرب عنهم وسائلهم في التَّقسيم الإداري، ويعد عمر أوَّل من وضع نظام تقسيم إداريٍّ متطور للدولة الإسلامية. انقسمت فارس في عهد الدولة الراشدة إلى ثلاثة ولايات، والعراق إلى ولايتين (البصرة والكوفة)، والشام إلى ولايتين (دمشق وحمص، وفلسطين ولاية مستقلة)، وشمال أفريقيا إلى ثلاث ولايات. ولم يشهد عهد عثمان ولا على لاحقاً تغيّرات أو تطوّرات إداريَّة ذات شأن بعد ما أنجزه عمر. قام عمر خلال فترة تولِّيه الخلافة بتوحيد اليمن تحت حكم والٍ واحد، وأما بلاد الشام فقد عاملها كمقاطعاتٍ عسكرية مؤقتة، حيث قُسِّمَت بين فاتحيها إلى خمسة أقسامٍ سُمِّيت أجناداً، وكانت هذه الأجناد هي: جند دمشق وجند حمص وجند 27 قنسرين وجند الأردن وجند فلسطين (ولم يُستَعمل تقسيم الأجناد هذا في أي ولاية أخرى من ولايات الدولة). وكانت بعض هذه الأجناد تُجمَع أحياناً تحت إدارة والٍ واحد، حيث ضُمَّت - على سبيل المثال - قنسرين وحمص معاً إلى معاوية بن أبي سفيان عام 31 هـ، وبعدها جند فلسطين، وكذلك كانت اليمن تُقسَّم أحياناً إلى ولايتين فيتبع قسمٌ منها صنعاء والآخر الجند، وأحياناً أخرى تُوحَّد ضمن ولاية واحدة. الشورى تفاوت الخلفاء الراشدون في منهج تطبيقهم للشورى وتعاملهم مع السياسة، فكان أبو بكرٍ على سبيل المثال يستشير ثم يُقرِّر، فيما كان عمر يستشير ثم يُنفِّذ. ولم يكن مجلس الشورى في عصر الراشدين يتألَّف من عددٍ محدد من الناس، ولم تكن آراء أهل الشورى ملزمةً للخليفة، ولم تكن تتخذ القرارات فيه بالأغلبية أو بالجماعة، بل كان البتُّ الأخير في الأمر للخليفة نفسه. اعتمد أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان بصورةٍ كبيرة على الشورى، فكانت لها آثارٌ إيجابية كبيرةٌ خلال فترات حكمهم، وساعدت على اتخاذ وتسوية القرارات والخلافات في تدبير شؤون الدولة. لكن من جهةٍ أخرى، اختلفت هذه الحال في عهد علي، ففي بداية حكمه كان يستشير صحابة المدينة مثل باقي الراشدين، وكانت أمور الشورى تسير جيداً، إلا أنَّه بعد انتقاله إلى الكوفة لم يكن حوله من يعتمد عليه من الصحابة، فقد أصبح معظم من حوله من جيل التابعين الأقل منزلة، فخسرت الشورى نتائجها المرجوَّة التي حقَّقتها في عهد من سبقوه من الخلفاء. ورغم أن الشورى استمرَّت في الدولة الإسلامية بعد انقضاء عهد الراشدين، فإنَّها لم تكتسب قطٌّ الأهمية والقوة التي اكتسبتها في عهدهم. للشورى في عهد الخلفاء الراشدين أمثلة كثيرة، كان منها ما عَقُبَ وفاة الرسول مباشرةً، حيث كان قدَّ أعد جيشاً بقيادة أسامة بن زيد لغزو الدولة البيزنطية، وعسكر الجيش خارج المدينة ينتظر حشد المقاتلين، إلا أنَّ النبي محمَّداً توفِّي في هذه الأثناء، وبدأت حركة الردة. وأمر أبو بكرٍ أسامة بالسير بجيشه، لكنَّ عدداً من الصحابة قلقوا من تهديد المرتدِّين للمدينة بينما يتجه كلُّ رجاله لغزو الروم، فجاء إلى أبي بكرٍ، عمر و عثمان و أبو عبيدة بن الجراح و سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد، وطلبوا منه تأجيل حملة أسامة إلى ما بعد القضاء على حركة الردة، حتى يأمنوا خطر المرتدِّين، إلا أنَّ أبا بكرٍ أقنعهم بعد أن ذكَّرهم بتوصية الرسول بإنفاذ حملة أسامة وهو على فراش الموت. وقد أعاد أبو بكرٍ الكرة عند وفاته، حيث طلب من الصحابة في البداية اختيار خليفتهم بأنفسهم، فلمَّا احتاروا في أمرهم طلبوا منه أن يرشِّح لهم أحداً، ففكَّر في عمر، وأخذ يشاور الصَّحابة في أمره، حتى قرَّر ترشيحه للخلافة. ويمكن القول أنَّ مجلس شورى أبي بكر تألَّف بصورةٍ أساسية من عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت. 28 الشرطة اتَّسم جهاز الشرطة في عهد الخلافة الراشدة بالبساطة، وكان في البداية تابعاً للنظام القضائي يُعنَى بتطبيق الأحكام القضائية، ثمَّ تطور فانفصل عن القضاء وصار لكلِّ مدينةٍ نظام شرطة. لم يكن للشرطة وجودٌ حقيقيٌّ طوال عهدي أبي بكرٍ وعمر، حيث كانت الدولة عسكرية اعتمدت في الجيش على حماية أمنها، لكنَّ الحاجة برزت للشرطة بعد انقضاء عهد عمر. كان أول من أسَّس نظام العسس للقيام بمهامّ الشرطة في الليل هو عمر بن الخطاب، والذي كان يتولَّى مهامَّ العسس هذه بنفسه مع الصحابي عبد الرحمن بن عوف، وكان كذلك أول من أنشأ حبساً لاعتقال الجناة أطلق عليه السّجن (بعد أن كان هؤلاء يحبسون في المساجد)، ثم قام عثمان بتأسيس أجهزة شرطة في الولايات والأقاليم، فكان أول من أنشأ جهاز الشرطة في الدولة الراشدة، وقام من بعده علي بن أبي طالب بتنظيم جهاز الشرطة في عهده، وعيَّن له رئيساً يُسمَّى صاحب الشرطة وعرفت هذه باسم شرطة الخميس. القضاء. اهتمَّ الخلفاء الراشدون بتحرِّي العدل وتطبيقه طوال فترة حكمهم، لكونه إحدى قيم المجتمع الإسلامي المهمة، وقد قامت الدولة الراشدة على احترام حقوق الإنسان والعدل، رغم أنَّ هذه القيم انهارت بدرجةٍ كبيرة بعد انتهاء الدولة وانبثاق الخلافة الأموية وما تبعها من دولٍ عنها. قام أبو بكر في عهده -مثل الرسول محمد -بأداء مهمَّة القضاء والتحكيم بنفسه، إلى جانب عددٍ من الصحابة الذين كان يستشيرهم الناس، وكان أول من بدأ بتعيين القضاة على ولايات الدولة وأقاليمها البعيدة هو عمر. فقد كان عمر أوَّل من فصل السلطة القضائية عن سلطة الحكم، وعيَّن قضاة لكل الولايات، وقد قام بسنِّ قوانين وأحكام لقضاة الدولة ليسيروا عليها، وأمرهم بتحرِّي العدل. الدواوين نشأ نظام الدواوين في الدولة الإسلامية خلال عهد الخليفة عمر، واختلف المؤرخون في توقيت هذا، فيقول الطبري أن الدواوين تأسَّست عام 15 هـ (636م)، بينما يذكر الماوردي أنها تأسَّست عام 20 هـ. ويُروَى أنَّ ذلك كان عندما جاء أبو هريرة من إقليم البحرين ومعه نصف مليون درهم، فخطب عمر بالناس مقترحاً طرقاً لتوزيعها، وكان أن أشار أحد الحاضرين إلى تدوين ديوانٍ تُسجَّل فيه هذه الأجور، فأمر عمر بذلك. ولاحقاً مع ازدياد تدفُّق أموال الغنائم من فتوح فارس والشام ظهرت الحاجة إلى تنظيم توزيع وتشغيل هذه الأموال، فأنشأ عمر لذلك ديوان بيت المال، وكانت تلك بداية العمل بالدواوين في تاريخ الإسلام. وقد توسَّعت الدواوين لاحقاً، فنشأ ديوان العطاء لتنظيم منح الأعطيات للناس (وفاضل عمر بين الناس، فجعل الأولوية لآل البيت، فالأسبق إسلاماً، فالأسبق جهاداً، فالأقدر قتالاً)، وكذلك ديوان الجيش لتسجيل أسماء الجنود والمقاتلين وتنظيم صرف مُرتَّباتهم، وديوان الاستيفاء لتسجيل وحساب خراج البلاد المفتوحة . 

هناك 3 تعليقات: